بيان ذلك: (للّه): يدلّ على الوجوب والإخلاص وحصر العبادة إيّاه.
(على الناس): يدلّ على أنّ الحجّ كان من قديم الزمان من لدن آدم وإلى يوم القيامة.عن الإمام الصادق(ع): إن الحجّ لعامّة الناس، فلا يختصّ بزمان ولا مكان ولا أقوام ولا طوائف ولا أُمم ولا شعوب.
(حجّ البيت): الحجّ لغةً: ـ بفتح الحاء المهملة ـ من حجّ يحجّ حجّاً فهو مصدر يدلّ على مجرّد الحدث من دون أن يقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ـ الماضي والحاضر والمستقبل ـ وأنّه بمعنى القصد المتكرّر. وفي المصطلح: عبارة عن مناسك خاصّة في أيّام معلومات ومعدودات. وأمّا الحجّ ـ بكسر الحاء المهملة ـ فهو إسم مصدر، ويدلّ على ما يحصل من الحجّ من الآثار المعنويّة والروحيّة، فالمصدر يدلّ على أصل الفعل، وإسمه يدلّ على ما يحصل من الفعل من إسقاط التكليف الشرعي والقرب من اللّه سبحانه. فالحجّ المطلوب عند اللّه سبحانه ليس مجرّد أصل الفعل، بل ما يحصل من فعل الحجّ من الصيانة المعنويّة والآثار الروحيّة والمقامات الرفيعة التي تجمعها كلمة (التقوى) كما يجري ذلك في الفرق بين الصوم والصيام.
فالذي كُتب على المؤمنين كما كُتب على الذين من قبلهم هو الصيام من قبلهم هو الصيام، وليس مجرّد الصوم، لأنّه ربّ صائم وليس له من صومه إلاّ الجوع والعطش، فالمقصود من الصيام (لعلّكم تتقون) وكذلك الحجّ ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ وإلاّ ورد في أحاديثنا الشريفة: «ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج» ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ فإنّ أكثرهم كالأنعام بل أضلّ سبيلاً. ثمّ المراد من (البيت) هو البيت العتيق الذي وضعه اللّه للناس من اليوم الأوّل، فكان عتيقاً، كما عتق من طوفان نوح(ع)، كما أنّه الثمين كالتراث العتيق، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في ستّة عشر موضعاً.
(من استطاع إليه سبيلاً) أعم من الاستطاعة المالية والبدنيّة والسربيّة، أي الطريق، كما ذكرها الفقهاء في رسائلهم العمليّة.
(ومن كفر فان اللّه غنيّ عن العالمين) فمن يترك الحجّ وهو مستطيع من دون عذر، فقد كفر بنعمة اللّه، وهذا من الكفر العملي، ويأتيه ملك عند نزع روحه ويقول له: مُت يهوديّاً أو نصاريّاً أو مجوسيّاً. فلا يموت على دين الإسلام، المحمّدي الأصيل ـ والعياذ باللّه. ثمّ لا يضر الله من كفر به في عقيدته أو سلوكه، إنّما يضرّ نفسه، فإنّ اللّه غنيّ عن الحاج وحجّه، بل غني عن العالمين، إنّه غنيّ بالذات، فإنّه الكمال المطلق ومطلق الكمال في الذات والصفات والأفعال: ﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ فلا يضرّه من ضلّ عن سبيله، وإرتكب معاصيه، وكفر بنعمه وآلائه، إنّما هو الخاسر خسراناً مبيناً.
ثمّ ممّا يدلّ على الوجوب والتأكيد على الحجّ لمن كان مستطيعاً الوجوه التالية:
(۱) (للّه على الناس) جملة خبريّة، وإنّها أقوى من الجملة الإنشائيّة للدلالة على الوجوب وتأسيس حكم أو إمضائه.
(۲) إنّها جملة إسميّة وهي أدل على الوجوب من الفعليّة لدلالتها على الثبوت والإستمرار.
(۳) لام التكليف في قوله (لله) وللتأكيد الذي إقترن مع الله، مقدمة على المبتدء وهو الحجّ، فيدلّ على الحصر.
(۴) ذكر (على الناس) بعد قوله: (لله) يفيد التأكيد فيدلّ على الوجوب.
(۵) ذكر المكلّفون مرّتين: (على الناس… من إستطاع اليه) بدلاً من أن يقال: للّه على المستطيع، ففي الآية بدّل البعض عن الكلّ، ويفيد التاكيد والوجوب.
(۶) عبّر عمّن ترك الحجّ بالكفر ـ وهو من الكفر العملي. عن الإمام الصادق(ع): «من مات ولم يحجّ حجّة الاسلام لمن يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً».وهذا يدلّ على الوجوب الفوري، لعدم علم الإنسان بساعة موته، فلا يؤخّرالحجّ ويسوّفه ـ أي يقول سوف أذهب ـ لمن كان مستطيعاً.
(۷) لإظهار عدم الإعتناء بمن ترك الحجّ قال سبحانه: (فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين) فإنّه غنيّ ليس لمن ترك الحجّ وحسب بل لكلّ العالمين.
ثمّ في الحجّ أسرار وحكم يجمعها الإيمان الكامل بالمبدء والمعاد، باللّه سبحانه واليوم الآخر، وما بينهما من الإيمان بالرسل والكتب النازلة عليهم، وبالإمامة من بعد الرسل والعمل الصالح.