لماذا تتحقق احلامهم ولا تتحقق احلامنا؟ لماذا يتحقق حلم داعية الحقوق المدنية الاميركي الاسود القس مارتن لوثر كينغ ولا تتحقق احلامنا؟ لماذا يتحقق حلمه بالغاء التمييز العنصري في بلد كرس دستوره، بادئ ذي بدء التمييز والعبودية، ولم يتحقق حلمنا في العدل والمساواة في بلدنا الذي علم العالم معنى القانون والعدالة والمساواة؟ لماذا؟ ونحن الذين يحدثنا قرآننا بقوله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
برايي فان هناك عدة اسباب وجيهة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
اولا: ان الحلم عندهم شيئ جميل يبعث على الامل والمثابرة والجدية في العمل والصدق مع النفس ووضع الخطط والبرامج والمشاريع من اجل تحقيقه ولو بعد حين، اما عندنا فالحلم شيئ معيب وهو دليل عجز صاحبه، كما انه في ثقافتنا دليل على ان صاحبه انسان مثالي وغير واقعي، ولذلك يقال لمن يفكر بالتغيير نحو الافضل والاحسن: انت تحلم، وان كل من فكر عندنا بصوت عال قال له المجتمع: انت تحلم، واذا تمنى شيئا خارج المالوف قيل له: انك تحلم، فالحلم عندنا عامل من عوال التثبيط واحيانا دليل الجنون.
هذا على الرغم من ان للحلم جذر في الدين الذي ندعي اننا مشبعون به واننا نفهمه كما نفهم انفسنا، ذكره القران الكريم في سورة يوسف عليه السلام بقوله {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ومع ذلك فان الحلم عندنا شيئ سيئ لا ينبغي لعاقل ان يفكر فيه، ولذلك يقال لمن يحلم بشيئ (مد رجلك على قدر لحافك) اي لا تفكر الى ابعد من ارنبة انفك، او يقال لاخر يحلم (اذا تظل تتطلع الى اعلى فستنكسر رقبتك) للتدليل على ان الانسان (العاقل) عليه ان ينكس راسه عندما يسير فلا يتطلع الى الامام، فالحلم بمستقبل زاهر، مثلا، ضرب من الجنون.
اما الذي يحلم عندهم مثل مارتن لوثر كينغ فيقول مثلا (الإيمان هو أن تأخذ الخطوة الأولى حتى ولو لم تستطع رؤية الدرج كله) فحلم بالاخوة مثلا في مجتمع منقسم على نفسه بالتمييز العنصري، فقال (علينا أن نتعلم العيش معاً كإخوة، أو الفناء معاً كأغبياء) فلم يسمع من احدهم كلمة تثبيط او استهزاء او تعييره بعبارة (انت تحلم) ابدا، ولذلك ظل يحلم فقال (الكراهية تشل الحياة، والحب يطلقها، والكراهية تربك الحياة، والحب ينسقها، والكراهية تظلم الحياة، والحب ينيرها) لانه كلما تقدم في احلامه ووسع من دائرتها كلما تفاعل معه المجتمع، حتى تحول حلمه الفردي الى حركة شعبية هادرة بدلت وغيرت بعد اقل من اربعين عاما.
انهم لا ينسون حقيقة ان حركات التغيير العظمى في التاريخ تبدا بحلم صغير وصغير جدا، ولذلك فكلما حلموا غيروا، اما نحن فننسى ذلك، ولهذا السبب فان من يحلم عندنا يسحقه المجتمع قبل ان يسحقه الزمن.
ثانيا: والحلم عندهم رؤية استراتيجية تسعى لتحقيق التغيير الشامل لكل المجتمع، من اجل الصالح العام، ولذلك يتفاعل معه الناس من خلال اعتباره حلمهم وليس حلم من يتحدث به فقط، ولهذا السبب راينا كيف ان المجتمع الاميركي كله تفاعل مع حلم لوثر كينغ فلم يقل له احد بانه حلمك الشخصي الذي تسعى لتحقيقه من اجل ان تكسب منه ما ينفعك شخصيا ابدا، بل ان كل المجتمع الاميركي تبنى حلمه ليتحول الى مشروع مجتمعي لا يقتصر على فئة دون اخرى، اما عندنا فاحلامنا صغيرة تدور في محاور ذاتية، فردية مثلا او حزبية او اثنية او دينية او مذهبية، لذلك لا تتحول عادة الى مشروع مجتمعي يتبناه كل المجتمع بلا تمييز.
ثالثا: من يحلم عندهم يسعى بكل جد وصدق واخلاص الى تحقيق حلمه، حتى لو كلفه ذلك حياته كما حصل للوثر كينغ، فهو لم يفكر لحظة في ان يدخر جهدا وهو يعمل على تحقيق حلمه من اجل ان يتمتع به هو اولا وقبل الاخرين، ابدا، وانما حلم فصرح بحلمه وقرر ان يعمل على تحقيقه من اجل الاخرين، فاستعد للموت من اجل تحقيقه، اي من اجل الاخرين، وربما لولا تضحيته بنفسه لما تحقق حلمه بعد اقل من اربعين سنة بعد ان تحول ذلك الحلم الى حركة اجتماعية هادرة اكتسحت كل اسباب الفشل معها لتصل الى بر الامان بابهى صور النجاح، لتتحول اليوم الى واحدة من اشهر الحركات الشعبية المطالبة بالحقوق المدنية، اما ذكراها فقد تحولت الى مناسبة وطنية يحتفل بها كل الاميركيين، اما عندنا فاذا حلم احدنا استعجل التحقيق على قاعدة ذلك الذي قيل له انك ستتزوج فقال: الان الان وليس غدا، والا فسارفض الزواج.
اننا ننسى، ونحن نحلم، حديث رسول الله (ص) الذي يقول {جاهدوا تورثوا ابناءكم عزا} فالاحلام الكبيرة لا يتمتع بآثارها أصحابها او ربما حتى الجيل الذي يضحي من اجل تحقيقها، لان الحلم بشئ ربما لا يستغرق سوى دقائق، اما تحقيق الحلم فبحاجة ربما الى سنين طويلة، كما ان تحقيقه بحاجة الى مثابرة وصبر وتحمل لحين اكتمال كل شروطه ليتحقق.
عندهم، اذا حلم احد فلا ينهزم عند اول مواجهة مع المثبطين والفاشلين والمرجفين في المدينة واليائسين، بل يصمم على الصمود والمثابرة، مع صدق مع النفس حتى يتحقق الحلم، اما عندنا فالحلم مهزوم ذاتيا، لان صاحبه يتحدث به وعنه مترددا خائفا يترقب، والحالم لا يصدق مع نفسه فكيف يصدق مع الاخرين؟.
رابعا: انهم اذا حلموا اعدوا لتحقيق حلمهم عدته، فكرة وخطة وادوات ورجال صادقين لا تاخذهم لومة لائم، اما نحن فنحلم وننتظر من يحقق لنا حلمنا، واذا اعددنا ادوات تحقيقه فانما نهيئ الادوات الخطا للحلم الصحيح، وهذه مشكلة عويصة سببت لنا الكثير من الدمار والدماء والتضحيات الجسام التي ليس في محلها.
خذ مثلا العراق الجديد، فعلى الرغم من صحة ما يحلم به العراقيون من بناء نظام سياسي ديمقراطي يعتمد مبدا التداول السلمي للسلطة والدستور والقانون والمشاركة الحقيقية والمساواة والغاء التمييز بكل اشكاله، الا انهم هيأوا لهذا الحلم ادوات غير سليمة اعتمدت الدم عند الاقلية والاستعجال عند الاغلبية والاستغلال السيئ للفراغ الذي حصل بعيد سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003 عند آخرين، ولذلك تحول حلمنا الوردي الى حلم دموي لا ادري ان كان العراقيون على استعداد لان يكملوا المشوار لتحقيقه، ام انهم سيندمون على اصبع البنفسج الذي حمل الى البرلمان زمرة وضفت الحلم الشريف للعراقيين الى حلم شخصي يعتمد الاستئثار بالسلطة وبالمال العام وبكل امتيازات الدولة العراقية وخيرات البلد على حساب الشعب المسكين الذي حلم فضاع حلمه، فلم ير منه الا انهار الدماء التي باتت يومية وانعدام الخدمات وعلى راسها الكهرباء، وضياع المستقبل والبطالة وغير ذلك.
هذا نموذج لادوات احلامنا، والنموذج الاخر ما نراه اليوم في سوريا، فالشعب يحلم بالديمقراطية فينتظر (العرب) الالة العسكرية للناتو وللولايات المتحدة الاميركية تحديدا لتحقق له هذا الحلم...الدموي.