من أبرز مصاديق الكلمة الخبيثة في التعبير القرآني اللغو والزور والبهتان والسخرية واللمز والتنابز والتجسس والغيبة الكلمة الخادعة (زخرف القول).
قال تعالى (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (إبراهيم /26)
لقد تنبهت الحضارة الغربية المعاصرة الى دور الكلمة وأهمية الأفكار ونقلها فكرّست جهودها المالية والفنية والبشرية الضخمة لتبني أجهزة الدعاية والإعلام التي تخدم أهدافها وتحقق أغراضها فسخّرت الخطباء والأدباء والفلاسفة والمفكرين والخبراء والعلماء والرأي العام والإعلام والصحافة لهذه المهمة، وأصبح للكلمة والفكرة والدعاية خبراء ومهندسون وأجهزة ومؤسسات ووزارات تخطط للكلمة والفكرة وتشرف على صناعتها وأسلوب إيصالها المؤثر، وقد استطاعت هذه الجهود الضخمة المُخَططة أن تغزو نفس الإنسان وعقله مستهدفةً نشر الفكرة الخبيثة والتحلل والفساد واستعباد الإنسان في أغلب الأحيان؛ لذا كان لزاماً علينا إذا ما أردنا للفكرة الطيبة البنّاءة أن تحتل موقعها المؤثر في نفس الإنسان، وأن تجتث الفكرة الخبيثة من أعماقه، أن نخطط بوعي وخبرة لاستعمال الكلمة وتوصيل الفكرة لمجابهة الحرب الفكرية والدعائية التي يوجهها أعداء الإنسان والإنسانية.
فهذه الكلمة الخبيثة هي التي يسعى الإسلام لاجتثاث جذورها وقلع أصولها ودوافعها النفسية والفكرية لدى الإنسان، إذ ما من كلمة ينطق بها الإنسان إلا ولها جذور فكرية ونفسية تسهم في صنعها وإخراجها ؛لذا كانت عناية الإسلام بالغة في إيجاد الوعي والتعريف بخطورة الاستعمال المنحرف والشاذ فقد قام بالتوعية والتوجيه والتعريف بشخصية صانع الكلمة والربط بينها وبين حقيقة الشخصية بوصف الكلمة حقيقة تعبّر عن الواقع النفسي والفكري لدى أصحابها، وتجسّد صورة المحتوى الباطني لصانعها فالكلمة نافذة مفتوحة يمكن النظر من خلالها الى عالم الإنسان الغامض المطوي فما أروع مقالة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : ((تكلّموا تعرفوا، فإنّ المرء مخبوء تحت طي لسانه)).
والقرآن الكريم حينما يتحدث لنا عن الكلمة الخبيثة يعزّز حديثه بالأمثلة والنماذج، ويعرض أنماطاً وصوراً شتى للاستعمال المنحرف والشاذ للكلمة من ذلك حديثه عن (الكذب، واللغو، والزور، والبهتان، والغيبة، واللحن، والسخرية، والاستهزاء، واللمز، والتناجي بالإثم والعدوان، وزخرف القول، والأراجيف … الخ)، وهو في كل من هذه المصاديق للكلمة الخبيثة يعرض حالة إنسانية، ويحلّل وضعاً فكرياً ونفسياً منحرفاً، ويكشف نموذج للاستعمال المنحرف للكلمة كي يوفر للإنسان المخاطب بهذه التوعية والتربية النفسية والسلوكية وضوحاً علمياً وسلوكياً يجعله قادراً على استعمال الكلمة استعمالاً خيراً وبنّاءً ؛ليحسب لكلمته حسابها، ويفكر في نتائجها وآثارها ومردوداتها قبل أن يطلقها ويصبح أسيراً لها مأخوذاً بتبعاتها.
يحدثنا القرآن عن اخطر مصاديق الكلمة الخبيثة الشاذة وهو اللغو ونعني به الكلام الفارغ الأجوف الذي لا فائدة فيه ولا معنى له غير الثرثرة والتعبير المنحرف عن أحاسيس ورغبات تائهة عابثة إذ يلجأ اللاغون الى اللغو والثرثرة تعويضاً عن الفشل وإشباعاً للإحساس بالفراغ مستعيضين عن الحقيقة بالوهم وعن الواقع بالكلمة الفارغة الجوفاء لذا ترى التعبير القرآني ينزه الشخصية الإسلامية الملتزمة عن السقوط في هذه الهوة الأخلاقية المزرية فيصف المؤمنين بالتعالي عن اللغو والابتعاد عن هذا الحضيض فيقول ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) – المؤمنون /1-3)، وكذا يقول (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ – القصص /55)، وكذا يقول (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا – الفرقان/72).
وهو القول الباطل المائل عن الحق المنحرف عن الحقيقة فالإسلام جاء لإحقاق الحق وحفظه، والمزورون مزيفون للحقيقة يستهدفون طمس معالمها والانتقال بالحق الى غير موضعه خلافاً لمنطق الوجود وقانون الشرع والأخلاق ؛لذلك كان الزور قرين الشرك في قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ – الحج/30) ؛ لأن العملين كليهما افتراء على الحق ونصرة للباطل وتضليل للإنسانية، وقد أثنى التعبير القرآني على المؤمنين الذين لا ينطقون بكلمة الزور، ولا يميلون عن الحق، ولا يستعملون كأداة لتزوير الحقيقة وإضاعة الحقوق في قوله تعالى (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا- الفرقان/72).
وهو مفارقة أخلاقية تختفي خلفها دوافع الكراهية والانتقام فضلاً عن إرادة الإسقاط والتخلص من الآخرين بإشاعة التهم والأضاليل ضدهم وتلويث سمعتهم والطعن بكرامتهم وهز كيانهم الاجتماعي وإسقاطهم بتلفيق الأكاذيب والطعون وتشويه صورة وجودهم في أذهان الآخرين وأوساطهم ودسّها على ألسنة المغفلين والجهّال الذين يتلقون الإشاعة ويتناقلون الأنباء بلا وعي ولا علم ولا مناقشة فمن أجل الحفاظ على كرامة ضحايا البهتان والإشاعات والأضاليل وحماية الأفراد والجماعات من ألسنة السوء ووقايتهم من أن يكونوا ضحايا الانحراف النفسي والأخلاقي الذي تعاني منه فئة شاذة ومغرضة في المجتمع، ومن أجل أن يلفت القرآن نظر هذه الفئة المعقدة من الناس ويكشف طويتها الخبيثة، ويفضح مقاصدها التجريبية راح يتحدث عن خطورة هذه الظاهرة، ويفسر آثارها وأبعادها السيئة الهدّامة بقوله (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ – النور /15-19) فالقرآن يصف في هذا النص الكريم الدوافع الأساسية لإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، ويؤكد أن هناك أعداء ومخربين في المجتمع الإسلامي هم المبهتون الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين فيخترعون التهم، ويصنعون الأكاذيب والإشاعات الباطلة ضد المؤمنين لتشويه سمعتهم وهدم مكانتهم ؛لذا قام القرآن الكريم بالتنبيه على الخطر والتحذير من هذا الطابور المتخفي من المخربين، ولم يكتفِ بالتوجيه والتوعية والتربية والوعيد بالعقاب والمسؤولية يوم الجزاء بل وشرّع عقوبة قانونية على هذه الجناية الأخلاقية التي تستهدف النيل من كرامة الأفراد والعمل على إسقاطهم، وشل وجودهم الاجتماعي، وإلزام الدولة الإسلامية تطبيقها ومعاقبة الجناة وفق نصها.
هذه مجموعة من المواقف والظواهر الأخلاقية الشاذة التي تتحمل الكلمة مسؤولية التعبير عنها والمساهمة في تحمّل أوزارها يسجلها لنا القرآن الكريم بنص توجيهي يستهدف تربية النفس واللسان وتعريف الإنسان بقيم الحياة ومقاييسها .قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ – الحجرات /11-12)، وقال (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ – الهمزة /1) فالقرآن بنهيه المؤمنين عن أن يعيب بعضهم بعضاً أو يطعن فيه أو يغتابه أو يتابع عيوبه فيكشف الخفي من أمره ليذيعه بين الناس للفضيحة والإهانة إنما يريد أن يربي الضابط الأخلاقي للكلمة ويحفظ علاقات الأفراد والجماعات بمستوى من حسن العلاقة وقوة الرابطة وتركيز الثقة والإحساس بالكرامة والأخوة الإنسانية ما يشيد قواعد المجتمع الرصين ويربي الشخصية المستقيمة، ويقتلع الخلفيات النفسية والأخلاقية المريضة للكلمة فالمغتاب والمتجسس والهمّاز واللمّاز شخصيات هزيلة تعاني من مرض الإحساس بالنقص والحقد على الآخرين، وتحاول أن تهدم كيانهم ووجودهم الاجتماعي في محاولة منها لإسقاط إحساسها الذاتي بالنقص عن طريق الإعلان عن عيوب الآخرين لإخفاء وتغطية عيوبها، وللانتقام من الشخصيات الأخرى ولاسيما التي تشعر بتفوقها عليها وتخشى نموها وتعاظم وجودها الاجتماعي. إنّ مجتمعاً تتحرك فيه الكلمة الهدّامة للنيل من كرامات الناس وأعراضهم وسمعتهم لمجتمع يتآكل أفراده، وتتساقط شخصياته في هاوية التفاهة والإهانة والاحتقار، وإنّ مجتمعاً يُربي وينتج مثل هذه الشخصيات الهزيلة لهو مجتمع مريض ومنحل يتداعى نحو السقوط والغياب ؛لذا ترى القرآن يعمد الى اقتلاع الدوافع المرضية للكلمة الخبيثة، ويعمل على هدم أبنيتها وآثارها السيئة المخزية، لتنظيف المجتمع وصيانته من هذه الظواهر العابثة الهدّامة التي تحمل الكلمة معولها، ويطلق اللسان شررها.
في قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ – الأنعام /112-113) يتحدث القرآن عن أخطر منزلق تهوي به الكلمة، ويتداعى الحرف في هاويته السحيقة عن طريق تصنيع الكلمة وزخرف القول والدخول الى المخاطب من نقطة الضعف والاستغفال ؛لإغرائه والإيقاع به والإيحاء له بسلامة الفكرة وصحة المفهوم المزيف الذي تحمله هذه الكلمة الخبيثة بين جنبيها فكم تهاوت أمم وشعوب وأجيال، وتساقطت في هاوية الضلال والانحراف والفساد الأخلاقي والعقائدي والاجتماعي بسبب الكلمة المزخرفة الخدّاعة التي يرقص السّذج والجهّال على نغم إيقاعها ويفتنون بسماعها وأناقة ظاهرها، وكم عانى الإنسان من أولئك الشياطين صُنّاع الكلمة الضالة المنحرفة التي قادت البشرية الى هاوية الضلال والانحراف.
أ.م.د خليل خلف بشير/نشرت في الولاية العدد 102-موقع الولاية