عاجل:
مقالات 2023-03-11 19:03 1583 0

لغة القرآن والعناصر البشرية.. هل كان الوحي متأثرًا باللغة العربية أم مؤثرًا فيها؟

حديثنا حول لغة القرآن الكريم والعناصر البشرية التي عنيت بها لغة القرآن، بما أن الوحي

المقالات المنشورة تعبر عن وجهة نظر أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع

 جاء من أجل هداية الإنسان وتعبيد الطريق له لبلوغ غايته وهدفه وهو وصوله إلى كماله.

﴿حم «1» وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ «2» إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «3» وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «4»﴾ [الزخرف: 1 – 4]

صدق الله العلي العظيم

حديثنا حول لغة القرآن الكريم والعناصر البشرية التي عنيت بها لغة القرآن، بما أن الوحي جاء من أجل هداية الإنسان وتعبيد الطريق له لبلوغ غايته وهدفه وهو وصوله إلى كماله كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52] فقد اشتملت لغة القرآن على بعض العناصر البشرية التي أريدَ توظيفها لتحقيق الهدف من نزول الوحي ألا وهو إرشاد الإنسان إلى طريق كماله.

ولكن وقع البحث في هذه النقطة وهي لغة القرآن والعناصر البشرية الكامنة في لغة القرآن في محورين:

  1. اقتران القرآن الكريم باللغة العربية.
  2. هل أن القرآن الكريم تأثر بثقافة اللغة العربية أم كان مؤثراً في ثقافة اللغة العربية؟

المحور الأول: اقتران القرآن الكريم باللغة العربية

قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: 4] كل رسول يوحى إليه بلسانه ولسان قومه ليبين لهم، وقال القرآن كذلك: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3]

الآية المباركة وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51] قسمت الوحي إلى ثلاثة أقسام: إظهار الحقائق، والبيان اللغوي، وإظهار الحقائق عبر البيان اللغوي.

القسم الأول

إظهار الحقائق بدون لغة نظير ما حصل لإبراهيم الخليل بالنسبة لذبح ولده إسماعيل قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102] فالذي أوحي إلى إبراهيم في منامه هو حقيقة من الحقائق لم تكن عبر لغة ولم تكن عبر لسان معين وهذا يعتبر النحو الأول من أنحاء الوحي.

القسم الثاني

أن يكون الوحي لغة كما ظهر في الآيات بالنسبة إلى موسى بن عمران ، قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: 145] فهذا هو النوع الثاني ألا وهو وحي ملفوظ جاهز ورد على النبي موسى .

القسم الثالث

حقائق تتجلى ولكنها مقرونة باللغة لا أنها فقط حقائق ولا أنها فقط بيان لغوي، حقائق تتجلى مقترنة حين تجليها بلغة بإزائها، وعندما نريد أن نمثل لذلك نمثل بما ورد حال معراج النبي إلى السماء، قالت الآية المباركة: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى «8» فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى «9» فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى «10» مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى «11»﴾ [النجم: 8 – 11] فالفؤاد رأى حقائق عينية ملكوتية وشاهدها، ليست رؤية بصرية وإنما هي رؤية قلبية رآها الفؤاد وكانت حقائق واقعية صادقة ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: 18]

رواية صحيحة عن الإمام الصادق تشرح أن الوحي كان حقائقاً بإزائه لغةً، مثلاً قال له الله تبارك وتعالى في ضمن لقاءه به عند سدرة المنتهى ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾ [البقرة: 285] فقال رسول الله ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285] كأنما هناك حوار بين الله وبين رسوله مع أن هذه آيات من القرآن لكن الإمام الصادق يقول هذه المجموعة من الآيات كانت حواراً بين الله وبين رسوله عند عروجه إليه، ثم قال ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286] فقال تعالى: قد فعلت. وقال: ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286] نطق بها الرسول عند عروجه إلى السماء.

إشكال: الوحي كما قلتم هو حقائق ملكوتية عينية فكيف تتنزل هذه الحقائق الملكوتية العينية وتصبح ألفاظ وكلمات؟ كيف نجمع بين الأمرين؟ الوحي من جهة هو حقائق ومن جهة أخرى أن الكلمات قضايا اعتبارية واختلاف اعتباري، علاقة الألفاظ بالمعاني مجرد علاقة اعتبارية نتيجة اختيار قوم لهذه اللغة واختيار قوم آخرين للغة أخرى، بينما الوحي عبارة عن حقائق ملكوتية عالية فكيف ارتبطت تلك الحقائق الملكوتية العالية بألفاظ تبانى قوم على جعلها إشارات ورموز لمعاني معينة؟

حتى نوضح الجواب: ذكرنا قبل ليلتين أن كل موجود حي مر بعوالم ثلاثة: عالم العقل، وعالم المثال، وعالم المادة، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21] ينزل من عالم العقل إلى عالم المثال إلى عالم المادة، كل موجود يمر بقوس النزول، أي ينزل هذه الدرجات الثلاث، أيضاً الوحي كذلك مر بهذه المراحل، الوحي هو حقائق في عالم فوق عالم الجبروت، أي في عالم فوق عالم العقل، عالم أعلى من عالم الجبروت الذي هو عبارة عن عالم العقل وهذا العالم هو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4] قبل أن ينزل كان في عالم الكتاب، وقال: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة: 77] ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: 22] إذن القرآن نفس الشيء كحقائق من عالم عرشي إلى عالم جبروتي إلى عالم مثالي أي أن تلك الحقائق تلبست بصور ثم إلى عالم مادي فتلبست تلك الحقائق بصور لغوية ملفوظة، وكل هذه الحقائق هي في قوس نزول متصل، الوحي هو هو، هو تلك الحقيقة المتعالية، وهو تلك الصورة المثالية، وهو تلك المادة اللغوية، هو يلبس هذه الصور المختلفة من دون أن ينقطع.

وكما أن الحقائق كذلك فإن الألفاظ كذلك وبالتالي يأتي الوحي بما يتطابق مع لغة النبي الذي أوحي إليه من أجل التيسير على فهم الآخرين لحقائق الوحي ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4].

ومما يدل على أن الوحي في عالم آخر ومن ثم صار ألفاظ ما ورد من آيات التأويل كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7] نحن تلقينا الوحي عبر ألفاظ فنفهم الوحي بصورة ذهنية أما النبي والراسخون في العلم فيدركون الوحي بما هو حقائق متعالية لا بما هو مفاهيم ذهنية مؤطرة بإطار لغوي كما نفهمه نحن ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 7]

وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «3» وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «4»﴾ [الزخرف: 3 – 4]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «77» فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ «78» لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «79»﴾ [الواقعة: 77 – 79].

المحور الثاني: هل أن القرآن الكريم تأثر بثقافة اللغة العربية أم كان مؤثراً في ثقافة اللغة العربية؟

لا إشكال أن القرآن الكريم عندما لبس اللغة العربية ونزل بلغة النبي ولسان النبي استخدم عناصر بشرية أي استخدم أمثلة وثقافة موجودة عند العرب.

بالنتيجة وظف عناصر بشرية مادية في سبيل إيصال تلك الحقائق المتعالية لعل يصل عشر منها إلى أفهام الناس، من هنا وُلِدَ اتجاهان عند المسلمين:

  • اتجاه أن الوحي متأثر
  • اتجاه أن الوحي مؤثر

هل أن استخدام القرآن للعناصر البشرية يعني أن الوحي تأثر باللغة العربية وثقافتها؟

هل اللغة العربية فرضت نفسها على القرآن وفرضت ثقافتها على القرآن أم أن القرآن استثمر اللغة العربية وفرض حقائقه على اللغة العربية مستثمراً لها لا أنها فرضت نفسها عليه؟

الاتجاه الأول

والذي تبناه مجموعة من المفكرين مثل محمد إقبال اللاهوري وعبد الكريم سروش ومصطفى ملكيان وأمثالهم، أن اللغة العربية فرضت نفسها على القرآن واقع لا مفر منه، كيف أن الماء إذا نزل من السماء الأرض تفرض نفسها عليه، الوحي كذلك عندما نزل باللغة العربية فإن اللغة العربية فرضت نفسها على الوحي بثقافتها وأمثلتها وأبعادها.

هذا الاتجاه الأول إذا عرفنا أدلته ومواطن الخدش والنقد فيه يتبين لنا صحة الاتجاه الثاني:

الدليل الأول

اللغة هي انعكاس لما في الذهن وليس انعكاس لما في الخارج، وهذا بحث لغوي مذكور في البحوث اللغوية أن اللفظ يحكي ما في الذهن أو يحكي ما في الخارج.

فمثلاً عندما أقول هذا كتاب، فكلمة الكتاب تحكي صورة في ذهني أو تحكي عن موجود في الخارج يسمى كتاب.

هناك اتجاه في فهم اللغة يصر عليه نصر حامد أبو زيد في كتابه «تاريخية المفهوم المغلق والمبهم» أن نظرية العالم اللغوي السويدي دي سو سور وهي أن الألفاظ متقوقعة في المفاهيم الذهنية.

أي عندما أتحدث معك أتحدث عما في عقلي لا عن شيء آخر، اللغة تحكي ما في الذهن لا ما في عالم الواقع.

وبما أن اللغة تحكي ما في الذهن إذن نزول القرآن باللغة العربية يعني أن القرآن انعكاس لمفاهيم ذهنية في رؤوس العرب، وما دام القرآن نزل باللغة العربية واللغة هي انعكاس لما في الذهن إذن ليس القرآن إلا انعكاس لمفاهيم ذهنية في رؤوس وعقول العرب، لا يعني شيء أكثر من ذلك.

فإذا كان انعكاساً لمفاهيم يعيشها العرب في أذهانهم إذن بالنتيجة قُهِر القرآن وتأثر وتأطر بهذه المفاهيم الذهنية التي يعيشها الذهن العربي.

ولذلك يقول هؤلاء أصحاب هذه المقالة أن الجن والحسد والسحر كلها ليس لها واقع وإنما هي ثقافة اللغة العربية، وإلا هذه الأمور لا واقع لها.

لكن لأن القرآن نزل باللغة العربية فقد فرضت عليه اللغة العربية ثقافتها، ومن الثقافة التي فرضتها اللغة العربية على القرآن هذه المفاهيم الشائعة عند الناس الجن والحسد والسحر ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن: 1]

أو ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: 5] و﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ [البقرة: 102]

الجواب عن هذا الاستدلال

المناقشة الأولى:

هذه النظرية هي نظرية فاشلة وكثير من أرباب البحوث اللغوية فندوا هذه النظرية وقالوا لا يمكن أن تكون اللغة أداة تواصل بين الناس وهي متقوقعة في عالم المفاهيم الذهنية.

نعم اللفظ يرشد لمفهوم ذهني لكن المفهوم الذهني ملحوظ على نحو الطريقية إلى الواقع الخارجي، ولذلك يقال في المنطق أن المفهوم الذهني على نحو ما به ينظر لا على نحو ما فيه ينظر.

هذا المفهوم الذهني ليس هو المقصود، نعم إذا قلت لك كتاب لفظ الكتاب يذهب إلى صورة في ذهنك عن الكتاب، لكن هذه الصورة التي في ذهنك للكتاب هي مشيرة إلى موجود خارجي.

فالصور الذهنية مجرد مشير على نحو ما به ينظر، لا على نحو ما فيه ينظر، وبالتالي الألفاظ تحكي عالم العين عالم الخارج وإلا كيف يمكن التواصل بين الناس، وكيف يمكن أن تنتقل العلوم من شخص إلى آخر إذا لم تكن الألفاظ حاكيه عن حقائق في الخارج!

المناقشة الثانية

لو كان القرآن الكريم قد قُهر وقد خضع لمعتقدات البيئة العربية التي نزل فيها فلازم ذلك أن القرآن يذكر المعتقدات الخرافية دون أن يبطلها وهذا يعني إيقاع الناس في الضلال والجهل والبعد عن الواقع.

وهذا تماماً نقض للهدف من نزول الوحي، فالهدف من نزول الوحي هو هداية الناس للوصول إلى الكمال، فإذا كان نزول الوحي عاجزاً عن ذلك ومضطراً لمجاراة الثقافة العربية بأباطيلها فهذا نقض للهدف.

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185] وقال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: 174]، وقال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]

الدليل الثاني

أن بعض الآيات القرآنية هي ظاهرة في أن القرآن تأثر باللغة مثلاً قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4].

اللسان هو عبارة عن الثقافة؛ أي ما أرسلنا من رسول إلى بثقافة قومه فإذا جاء بثقافة قومه وثقافة قومه كثقافة اللغة العربية محشورة بهذه الأوهام والأباطيل اشتمل القرآن لا محالة على هذه الأوهام والأباطيل.

فإن استيعاب لغة القوم يعني استيعاب ثقافة القوم إذ أن اللغة مرآة تعكس الصورة الثقافية للناطقين بتلك اللغة.

الجواب عن الاستدلال بالآية

  • أولاً: كلمة لسان باللغة العربية تعني نفس اللغة ولا تعني الثقافة؛ أي عندما يقال بلسان قومه لا يعني بثقافة قومه ولذلك يقول تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103].

وقال تبارك وتعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17»﴾ [القيامة: 16 – 17]

  • ثانياً: لو كان المراد باللسان هو الثقافة ومعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: 4] أي بثقافة قومه فهذا يعني أن القرآن الكريم جارى عقائد العرب وجارى مفاهيمهم الباطلة لأنه نزل بثقافتهم.

وهذا تماماً يتعارض مع ظاهر الآيات القرآنية التي ظاهرها أن القرآن وكل أنواع الوحي التي نزلت على الأنبياء السابقين كانت في مقام الحرب والمواجهة للثقافة السائدة إذا كانت تشتمل على مفاهيم باطلة قال تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ [إبراهيم: 9].

مع أنه لو كان الوحي مجارياً لثقافته لما قالوا ﴿إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾

الدليل الثالث: عنصر الاستغلال

لماذا استوحشتم من أن القرآن استخدم العقائد العربية الباطلة أو استخدم المفاهيم العربية البالية إنما هو استخدمها لأجل الاستغلال، من أجل أن يصل إلى هدفه وهو توعية الناس وهدايتهم استغل هذه العقائد واستغل هذه المفاهيم العربية من أجل الوصول إلى هدف.

فالمسألة مسألة استغلال وليست مسألة انبهار وانقهار؛ أي أن القرآن انقهر أمام ثقافة اللغة العربية وإنما استغلها في سبيل الوصول إلى هدفه.

فذكر الجن والحسد والسحر والشيطان ومس الشيطان وكل هذه العقائد البالية، استخدمها لأجل استغلالها للوصول إلى هدفه، وهذا المعنى ذكره الدكتور طه حسين في بعض كتبه.

الجواب عن ذلك

أولاً: ليس من الحكمة الإلهية تحقيق مصلحة بزرع مفسدة، وهذا مخالف للحكمة قطعاً ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ [فاطر: 31]، ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ «13» وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ «14»﴾ [الطارق: 13 – 14].

ويقول القرآن الكريم: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50] إن قلت أن الرسول قال: إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم.

نقول لك معنى على قدر عقولهم يعني نخاطبهم بلغة سلسة سهلة يفهمونها ولا نحمل عليهم لغة أعلى مما يفهمون أو مصطلحات أصعب مما يستوعبون، نخاطبهم بلغة سلسة سهلة كي يصلوا إلى الحقائق عبر هذه اللغة لا أن معنى أننا نخاطبهم على قدر عقولهم أي نقرهم على عقائدهم الباطلة ومفاهيمهم البالية من أجل الوصول إلى أمر آخر كما يدعى.

الدليل الرابع

وهو ما يصر عليه الدكتور السيد عبد الكريم سروش في إصراره على أن اللغة العربية وضعت مخالبها على القرآن ولا مناص للقرآن منها ومن مفاهيمها البالية.

يقول في كتابه «بسط التجربة النبوية»: لقد كان وحي النبي وتجربته تلبية واستجابة للأسئلة ووضع الحلول بإزاء المشاكل ولم يكن لديه إيديولوجية جاهزة، الوحي كان تواصلاً مع الناس في حل مشاكلهم وإجابةً لاستفساراتهم وأسئلتهم، ولذلك لو كتب للنبي أن يعيش فترة أطول وأن يتعرض لحوادث اجتماعية وسياسية أكثر لكانت مواقفه أكثر وهذا معنى ما نُصِّرُ عليه أن حجم القرآن سيكون أكبر بكثير مما عليه الآن.

فالقرآن إجابة للأسئلة وحل للمشاكل، القرآن يمتد بامتداد حياة النبي وليس مفاهيم معلبة جاهزة أنزلها الله على النبي ووضعها النبي بأيدي الناس، فلأجل ذلك ما دام القرآن لغة تواصل فمن الطبيعي أن يخضع القرآن إلى العادات والتقاليد السائدة لدى العرب لأن هدفه أن يحل المشاكل ويعالج هذه المفاسد وقد يمضي بعض العقائد وبعض المفاهيم الباطلة.

الجواب عن هذا الاستدلال
  • أولاً: القرآن اشتمل على محكم وتفصيل في قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1].

معنى هذه الآية أن القرآن فيه أسس وفيه تفريعات، الأسس والمبادئ العامة جاهزة وواضحة من الأول إيديولوجية جاهزة، والتفريعات خضعت للمواقف التي عاشها النبي  كما يقول السيد السيستاني دام ظله روايات أهل البيت ليست نوع واحد بل نوعان تعليم وإفتاء.

أي تارة يكون المعصوم في مقام التعليم يعني يضع خطوط عامة وقواعد كلية «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع».

وتارة يكون الإمام في مقام الإفتاء يجيب على الاستفتاءات والأسئلة، القرآن كذلك فيه خطوط عامة وفيه تفاصيل.

ومن الخطوط العامة التي يتحدث عنها القرآن الكريم: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255].

﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: 11].

هذه كلها خطوط عامة ليست خاضعة للعرب ولا لاتصال العرب، فَهِمَ العرب أم لم يفهموا.

وهناك آيات تتحدث عن تفاصيل مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ [المجادلة: 1].

﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 37].

﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: 123].

هذه آيات تتحدث عن قضايا ومواقف عاشها النبي.

إذن القرآن فيه قسمان والقسم الثاني خاضع للأول أي أن الأجوبة التي ذكرها القرآن للمشاكل والمواقف التي حصلت في حياة النبي كلها في إطار الخطوط العامة التي طرحها القرآن الكريم.

لذلك قال: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1].

التفصيل في ضوء وفي إطار المحكم وليس منعزلاً عنه ولذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: 67] أي المواقف الأخرى في إطار ما أنزل إليك.

  • ثانياً: لو كان القرآن في مقام المجاراة والمداراة مع عقائد العرب لماذا أبطل كثير من الممارسات الجاهلية من قبيل اعتبار الملائكة بنات، ومن قبيل اعتبار الولد المتبنى ولداً شرعياً، ومن قبيل وأد البنات وهن أحياء، والظهار، وتقديم الأضاحي للأوثان.

كثيرٌ من الممارسات والعادات وقف منها موقفاً حازماً فكيف يقال بأنه استغل هذه المعتقدات في سبيل الوصول إلى هدفه!

أو كيف يقال بأنه القرآن مجرد لغة تواصل محكوم! نعم ربما لو عاش النبي أكثر يكون القرآن أكبر ولكن تظل هذه التفريعات في إطار المفاهيم الأصلية الأساسية التي هي مفاهيم جاهزة ومعروفة.

مما يعني أن احتكاك القرآن بما كان يُعرض على الرسول كان نابعاً عن مخطط واضح من قبل نزول القرآن لا على سبيل الصدفة والارتجال، كما ذكر ذلك القرآن الكريم نفسه.

  • ثالثاً: اشتمل القرآن على عنصر الاستثمار ويقصد به استثمار العنصر اللغوي لأن اللغة العربية هي أكثر اللغات حشداً.

في اللغة العربية المعنى الواحد له عشرة ألفاظ، والمضمون الواحد يكنى عنه بعدة عبارات وعدة استعارات.

وبعبارة أخرى كما يقول طه حسين: اللغة العربية لغة أدبية شعرية، لغة تختزن الاستعارات والكنايات والمجازات، لغة مملوءة بالأدب، والقرآن الكريم استثمر هذه الخاصية في اللغة العربية في أداء بعض المفاهيم التي طرحها لا أنه استغل بعض العقائد وبعض العادات والمفاهيم البالية.

وحتى أصل إلى ذلك أذكر بعضاً من الأمثلة:

عندما يقول القرآن الكريم في حق ذي القرنين ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ [الكهف: 86] فماذا يعني القرآن أن الشمس تغرب في عين حمئة؟

هو تعبير أدبي وتصوير لمنظر الشمس حال الغروب يحكي صورة جميلة أدبية وجدها ذو القرنين عندما وصل إلى آخر بلاد المغرب وما وراءه إلا المحيط الهادي.

أو قول القرآن: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10].

ومعلوم أن الله ليس له يد جسمانية وإنما المقصود هو القدرة؛ قدرة الله وقوته فوق القوى وفوق القدرات الأخرى.

فكما أن القرآن الكريم في مقام إيصال الناس إلى الكمال استثمر اللغة العربية ومجازاتها واستعاراتها، كذلك القرآن الكريم في مقام العقائد تدرج في محوها لا أنه داراها وجاراها بل نقضها لكن بشكل تدريجي.

كما في الخمر، عبر عن الخمر بأنه إثم، ثم قال نهى عن الصلاة في حال السكر ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: 43].

ثم بيَّن أنه رجس ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90].

الدليل الخامس

ذكر الدكتور سروش عدة شواهد على أن القرآن تأثر باللغة العربية، مثل مسألة السبع سماوات، العلم الحديث لم يثبت السبع سماوات بينما القرآن يقول: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [البقرة: 29].

هذا معناه أنه جارى الثقافة العربية آنذاك، ويقول القرآن الكريم في المس: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275].

والعرب هم من يعتقدون بالجن والمس والتلبس بالجن، وهذا مفهوم عربي خاطئ والقرآن جاراه ولم يدحضه.

وكذلك رجم الشياطين بالشهب ﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ﴾ [الصافات: 8] ﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [الصافات: 10].

أن الشياطين إذا اقتربوا من السماء يُرمون بشهب، وفي الواقع لا يوجد شياطين ولا يرمون بشهب والعلم أبان الحقيقة بشكل آخر وما هذا إلا مجاراة للثقافة العربية آنذاك.

وفي مقام المناقشة
  • أولاً: أغفل الدكتور وغيره الآيات الكريمة التي تحدثت عن حقائق علمية، قبل ألف وأربعمئة سنة.

عندما يقول القرآن الكريم: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88].

ويقول القرآن الكريم: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ «75» وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «76»﴾ [الواقعة: 75 – 76].

ويقول القرآن الكريم: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: 41]

ويقول القرآن الكريم: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾ [الزمر: 6]

كل هذا بعيد عن الثقافة العربية والعرب لا يفهمون معناها، وكثير من هذه الآيات بقيت مجملة ومبهمة لأنهم لم يصلوا إلى معناها ومغزاها.

فأين المجاراة للثقافة العربية! أين القرآن الذي خضع للغة العربية وانقهر بها بحيث لا يستطيع الخروج عن معتقداتهم!؟

  • ثانياً: عندما نأتي إلى الآيات التي استشهد بها يقول: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: 5] لم يكتشف العلم سبع سموات لا أنه اكتشف خطأ هذا الكلام.

ويقول في نفس الوقت: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47] فهذا الفضاء في حال تمدد غير منقطع في كل لحظة، وأنت تقول لم يكتشف العلم سبع سماوات!

وقد فسَّر بعضهم السبع سماوات بالسماوات الأخرى أي سماوات ملكوتية وليست سماوات مادية.

وثانياً بعضهم فسر السبع كناية عن الكثرة أي سواهن عن أكثر من طبقة.

وثالثاً على فرض أنها سماوات مادية وهي سبع فأي مانع أن العلم للآن لم يكتشف هذه الحدود الفضائية بعد وهي تعبر عن سبعة حدود لهذه المنظومة الفضائية.

الآية الثانية: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275].

ذكر عدة مفسرين ومنهم السيد الطباطبائي أن المحتمل من المس هو المس الذهني وليس المس البدني، مثل الآية القرآنية التي تقول: ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ «78» لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «79»﴾ [الواقعة: 78 – 79] لا يقصد به المس البدني بل المس الذهني أي لا يصل إلى حقائق القرآن الكريم بذهنه إلا المطهرون، ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ هو مس فكري أي أن الشيطان يسيطر على فكره فيبث فيه الوساوس والأفكار المنحرفة.

  • ثانياً: صحيح العلم اكتشف مرض الصرع وأسبابه وربما تكون له أسباب جسدية وربما تكون له أسباب نفسية ولكن ممكن أن يكون من أسباب شيطانية أيضاً.

أي بالنتيجة لا نستطيع نفي وجود الجن، لأن هذا ليس شيئاً مادياً حتى ننفيه أو نثبته، عالم الآلة، وعالم الأجهزة، وعالم المختبرات، وعالم التجارب كله عالم مادي فلا يمكن أن ينفي شيئاً وراء المادة.

ولا يمكن للعلم أن ينفي وجود الجن، وإذا لم يكن للعلم قدرة على نفي وجود الجن فلعل للجن سببية إلى بعض أنواع الصرع، أو بعض أنواع الكآبة النفسية، أو بعض أنواع القلق وأما أشبه ذلك.

الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ﴾ [الصافات: 8].

ذكر السيد الطباطبائي صاحب الميزان أعلى الله مقامه[] قال: بعضهم فسر ذلك بأن الشياطين يصعدون إلى السماء فيقذفون بالشهب وهذه التفسيرات قدمها المفسرون القدماء استناداً إلى علم الهيئة القديمة وظواهر الآيات والروايات وهي باطلة قد ثبت اليوم بطلانها على نحو يقيني.

ثم يقول السيد: إن مسألة قذف الشياطين بالشهب من المسائل الغيبية، قال تعالى: ﴿لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾ لعل المراد بالملأ الأعلى عالم الملائكة أي عالم ملكوتي غيبي ميتافيزيقي وليس عالماً مادياً.

فالشياطين لا يستطيعون أن يصلوا إلى هذا العالم ولو اقتربوا لرموا بالشهب، وهذا لا علاقة له بالسماء التي نعيش تحتها، فمع وجود هذا الاحتمال في تفسير الآية المباركة لا معنى للاستدلال بالآية المباركة على أن هناك عقائد خاطئة ومفاهيم بالية تضمنها القرآن الكريم.

إذن بعد مناقشتنا لجميع الأدلة التي أقامها الاتجاه الأول على أن القرآن الكريم خضع للغة العربية بأمثلتها وعقائدها ومفاهيمها البالية تبين أن هذا الاتجاه اتجاه خاطئ.

فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية واستثمر بعض المجازات والاستعارات المعروفة عند العرب من أجل بيان بعض الحقائق لكنه كان هو المؤثر وليس المتأثر، هو الفاعل وليس المنفعل.

التعليق