عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه. ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ))(١).
منذ حلول الغيبة الكبرى للإمام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وانقطاع الاتصال به من قبل شيعته بوفاة السفير الرابع (رضوان الله تعالى عليه) والى الآن قُيّض لهذه الطائفة بعناية ربانية من يقودها دينياً، ويرجع غالب أفرادها اليه من العلماء الربانيين ممن يسير على نهج النبي وآله المعصومين (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين) في الحفاظ على الدين وقيمه ومبادئه، وذلك بتبليغه والدفاع عنه في ظل ظروف قاهرة تعرضت لها الطائفة الحقة على مدى العصور، فكانت المرجعية العامة للشيعة مثالا للتفاني في سبيل هذا الهدف الشريف. وهذا التفاني لم تفارقه صفات الورع والتقوى والإنصاف للآخرين، ولنأخذ مثالين من هؤلاء المُقدّسين في عصرنا وهما السيد محسن الطباطبائي الحكيم، والسيد ابو القاسم الموسوي الخوئي (رضوان الله تعالى عليهما) وهما آخر مرجعين عامين للشيعة الإمامية قبل المرجع الأعلى الحالي السيد السيستاني (أدام الله تعالى وجوده الشريف)، ولنرى كمية الإنصاف والقمة في الورع والتقوى اتجاه من يخالفونه في الرأي في مسألة خطيرة تتعلق بالتوحيد الذي هو أصل الأصول والإخلال به قد يؤدي إلى الكفر أو الشرك في بعض التصويرات.
كان هذا عندما ناقشوا الفيلسوف الشيعي صدر الدين الشيرازي المعروف بـ (صدر المتألهين) و (ملا صدرا) صاحب موسوعة الأسفار الأربعة، وبالتأكيد فان المناقشة التخصصية، والانتصار لأي رأي ليست هدفنا في هذا الحديث فلن نذكر تفاصيلها المطولة، وإنما ما يهمنا هو الشاهد من كلامهم على ورع أهل العلم الحقيقيين وتقواهم في كيفية التعامل مع الشخوص الذين يبدر منهم ما يريب إذا وجدوا لهم محملا لعدم المؤاخذة، مع عدم المساس بتشخيص صحة أو خطأ المسألة العلمية المناقش فيها.
ولنبدأ بمرجع الطائفة في عصره السيد محسن الحكيم ( قدس سره) حيث استعرض كلاما للملا هادي السبزواري في تعليقته على كتاب الأسفار للملا صدرا يذكر فيها أربعة أقوال في التوحيد: توحيد عامة الناس، وتوحيد خاص تحته ثلاث مراتب، وما يتبناه الملا صدرا هو أحد هذه المراتب، ورأيه بظاهره لا يوافق عليه السيد الحكيم، وهذا نص تعليقه (قدس سره):
((أقول: حسن الظن بهؤلاء القائلين بالتوحيد الخاص والحمل على الصحة المأمور به شرعا، يوجبان حمل هذه الأقوال على خلاف ظاهرها، وإلا فكيف يصح على هذه الأقوال وجود الخالق والمخلوق، والآمر والمأمور والراحم والمرحوم؟! وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.))(٢)
والقدر المتيقن من كلام السيد (قدس سره) ينصرف إلى الملا صدرا كونه إمامياً، فلاحظ إن استنكاره للرأي الظاهر من كلام الملا صدرا لم يمنعه عن حسن الظن بقائله على فرض أنه يريد معنى آخر لم يظهر في كلامه، وأما لوازم الظاهر فلا تُحمَّل للقائل ولا يمكن نسبتها إليه في النقاش العلمي على سبيل الجزم عند أهل الورع والتقوى إلا بدليل قاطع لا يحتمل التأويل، لأن احتمال عدم الالتفات إلى اللازم الباطل موجود، واحتمال وجود شبهة مقابل بديهة لدى القائل موجود أيضاً.
هذه الاحتمالات، والمحامل التي تُسوِّغ حسن الظن بالمؤمن لا نجدها إلا عند أهل الورع والتقوى من الذين يحسبون كلامهم من عملهم، أما غيرهم فنجد عندهم وساوس الشيطان الذي يقول لهم: ما دام ظاهر كلامه باطلا فهو متجاهر بالفسق تجوز غيبته!! وما دام ظاهر كلامه باطلا فهو من أهل البدع والريب ويجب محاربته وإسقاطه! وما دام ظاهر كلامه مضعفاً للولاية فهو ناصبي عدو لأهل البيت يجوز لعنه!!! وهكذا.
وكم هو جميل عندما ختم السيد الحكيم (قدس سره) تعليقه بدعاء: (( وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.)) وفعلا فإن هذا الإنصاف والعمل بالاحتياط يحتاج إلى توفيق خاص.
وأما ما كان من مرجع الطائفة في عصره السيد أبو القاسم الخوئي (رضوان الله تعالى عليه) في نفس المسألة، فقد كان الكلام فيه مفصلا، وكذلك فرّق بين الفكرة وصاحبها إن لم يلتزم بلوازمها الباطلة، فقد ذكر المراتب الخاصة التي ذكروها للتوحيد، ولم يؤيد أحداً منها، ولكنه ذكر إن بعضها يكون باطلا مع استلزامه الكفر والنجاسة، وبعض آخر مع بطلانه لا يستلزم الكفر والنجاسة، إلى أن جاء إلى رأي الملا صدرا وبعد أن ذكره قال (قدس سره):
((إلّا أنّه لم يظهر لنا إلى الآن حقيقة ما يريدونه من هذا الكلام. وكيف كان فالقائل بوحدة الوجود بهذا المعنى الأخير أيضاً غير محكوم بكفره ولا بنجاسته ما دام لم يلتزم بتوال فاسدة من إنكار الواجب أو الرسالة أو المعاد.))(٣)
فلاحظ تواضع السيد (قدس سره)، وورعه، وعدم تحرجه من إبداء عدم وصوله إلى مقصودهم من لفظ عباراتهم لئلا ينسب لهم ما قد لا يعتقدونه أو يلتزمون به بمجرد الظن بمرادهم ولو كان قوياً، فاحتمال عدم إرادته يبقى موجوداً.
وفي موضوع آخر بخصوص التجسيم و رأي ملا صدرا فيه، قال السيد (قدس سره):
(( ومنهم من يدّعي أنه تعالى جسم ولكن لا كسائر الأجسام كما ورد أنه شيء لا كالأشياء فهو قديم غير محتاج… والعجب من صدر المتألهين حيث ذهب إلى هذا القول في شرحه على الكافي وقال ما ملخّصه: إنّه لا مانع من التزام أنه سبحانه جسم إلَهي، فانّ للجسم أقساماً… ولقد صرّح بأن المقسم لهذه الأقسام الأربعة هو الجسم الذي له أبعاد ثلاثة من العمق والطول والعرض. وليت شعري أن ما فيه هذه الأبعاد وكان عمقه غير طوله وهما غير عرضه كيف لا يشتمل على مادة ولا يكون متركباً حتى يكون هو الواجب سبحانه!!! نعم، عرفت أن الالتزام بهذه العقيدة الباطلة غير مستتبع لشيء من الكفر والنجاسة، كيف وأكثر المسلمين لقصور باعهم يعتقدون أنّ اللَّه سبحانه جسم جالس على عرشه ومن ثمة يتوجهون نحوه توجه جسم إلى جسم مثله لا على نحو التوجه القلبي.))(٤)
إذن لا يجوز تحميل الإنسان لوازم فكرته من منطوقها إلا أن يصرح هو بالتفاته إلى تلك اللوازم واعتقاده بها فان الظن لا يغني من الحق شيئا، واثبات اعتقاد القائل بلوازم منطوقه بلا تصريح منه دونه خرط القتاد، فانه من التظني المنهي عنه خصوصا إذا تعلق الأمر بانتهاك حرمات الآخرين وهتكهم، لا سيما المؤمنين منهم، ويتغلظ الأمر اتجاه العلماء العدول المعروفين بأوساط المؤمنين بالعلم والعمل.
وفي الختام اكرر: إن الأمثلة في مناقشة العلمين (طاب ثراهما) التي اختصت بآراء ملا صدرا كان الهدف الوحيد من ذكرها هو إبراز التعامل الصحيح الذي يراعى فيه الإنصاف والاحتياط اتجاه آراء الآخرين.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على محمد وآله أبدا
وأسألكم الدعاء
عبدالناصر السهلاني
————————
(١) نهج البلاغة: خطبة ١٧٦
(٢) مستمسك العروة الوثقى: ج١، ص٣٩١
(٣) التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج٣، ص٧٧
(٤) التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج٣، ص٧١-٧٢