النزاهة عند الإمام الحسين عليه السلام نابعة من النقاء في الرؤية والقوة في الحجة والدليل؛ بعدما انتهل من منبع الرسالة الصافي، وهي تمثل مظهراً مهماً من مشروعه الإصلاحي، لما يمثله عليه السلام من النقاء في الرؤية والقوة في الحجة والدليل.
ان من أولويات عمل المصلح، هو توفير المناخ الملائم لاستجابة من يخاطبهم وقبولهم مشروعه الإصلاحي، وهذا ما يستدعي تنقية الأجواء من المؤثرات السلبية على تحقيق ذلك.
ولا يتم للمصلح ما يريده من ترشيد الواقع وتعميق أسس المعروف في المجتمع، لولا بحثه عن المناخ المناسب لذلك العمل، بعدما كان المصلح مدعواً لتأكيد قيم الصلاح النزاهة والأمانة في المؤسسة المجتمعية عامة، وجعلها الرئة التي يتنفس الأفراد من خلالها ما يصلح لديمومة حياتهم وتواصلهم الإنساني فيما بينهم.
وذلك لما للنزاهة الذاتية والأمانة العضوية من تأثير قوي في هيكلة بناء الفرد وجعله منسجماً مع الأخلاق والمُثل السامية التي تعتبر حجر الأساس لمجتمع يُشرف على تقويمه الأنبياء والحكماء ومن سار على طريقهم، ويعيش فيه الخلق وهم عيال الله، كما روي عنه ص: (الخلق عيال الله عز وجل فأحبهم إليه أنفعهم لعياله)(1) ، مما يحتم مزيد الاعتناء بالتوجيه، ويُلزم بأتباع مناهج تربوية تضمن الاستقامة الفردية، وإلا فيكون الزلل وتكثر المعاناة وتدوم فصولها حتى قد يصعب التخلص من إفرازاتها.
وعلى ذلك فلابد من وقفة تصحيح بل نهضة تقويم؛ لضمان السلامة، بما يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من كل حسب طاقته وفي كل مكان أو زمان حسب ظروفهما الحاكمة، وإلا كان الظلم وقد رُوي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (يا أيها الناس إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)(2) .
وأحسب أن في هذا البحث ما يستجلي الحلول بواسطة التأمل في بعض ما روي عن الإمام الحسين عليه السلام؛ حيث عالج قضية مهمة للغاية، تستدعي تنظيراً لحلها على مستوى المعصوم عليه السلام؛ لما يمثله عليه السلام من موقع في نفوس ملزم بالطاعة، مما يرجى معه الاستجابة، أو إقامة الحجة قطعاً للمعاذير.
كما وأنه عليه السلام يمثل النقاء في الرؤية والقوة في الحجة والدليل؛ بعدما انتهل من منبع الرسالة الصافي بما يعزز الوثوق بسلامة الأطروحة من كثير مما يشوب برامج إصلاحية أخرى، نتوجس منها خيفة لما يشوبها من شوائب يكون فسادها أكثر من صلاحها، وهذه عقدة المعاناة العامة محلياً واقليمياً ودولياً،
حيث كانت خارطة طريق الإصلاح ممن يُخطئ في تقديراته ويشتبه في تصوراته، فأنى له ببرمجة دقيقة بعدما كان مشوش الرؤية ناقص الروية، فكان لابد من الاحتكام إلى المعصوم الذي يؤمن منه الخطأ، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردُوه على الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ واحسن تأويلاً).
وإن أئمة الهدى عليهم السلام هم أولو الأمر، وقد أمرنا بطاعتهم، كما أحالنا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين المتواتر، فهم (مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)، فعلينا أن نستعد للركوب فيها من خلال العمل بما أوصانا به إمامنا الحسين عليه السلام في هذه الخطبة المباركة؛ عسانا ننجو بتمسكنا وعملنا، من شر ما يحيط بنا من أطماع وأهوال، قال تعالى: (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين).
النزاهة: (البُعد عن السوء)، أو (البُعد عن الشر)؛ لأن (النون والزاي والهاء كلمة تدل على بُعد في مكان وغيره)، فيقال: (تنزهت عن كذا، أي: رفعت نفسي عنه تكرماً ورغبة عنه)، ويوصف الإنسان بأنه: (نزيه كريم، إذا كان بعيداً عن اللؤم)، وهو استعمال مجازي؛ بعدما كانت المباعدة الحسية عن الشيء هي الموضوع له حقيقة.
فكان الاستعمال في المباعدة المعنوية عن الشر، وما يصيبه بسوء مجازٌ، ومن ذلك اللؤم كصفة سيئة، فإن (اللام والألف والميم أصلان أحدهما الاتفاق والاجتماع والآخر خلق ردئ.. إن اللئيم الشحيح المهين النفس الدني السنخ)، وأن (اللئيم: الدنيء الاصل الشحيح النفس)، الأمر الذي يؤكد التقابل الوصفي بين النزاهة واللؤم، كما تقابل المعروف مع اللؤم، لكون المعروف: (كل فعل يُعرف بالعقل أو الشرع حُسُنهُ)، وكان اللؤم من الأخلاق القبيحة الرديئة.
وقد ورد في النصوص المباركة ما يؤكد ذلك الاستعمال، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
وقد عقب الإربلي على ذلك بقوله: (قلت هذا الفصل من كلامه عليه السلام وإن كان دالاً على فصاحته ومبيناً عن بلاغته فإنه دال على كرمه وسماحته وجوده وهبته مخبر عن شرف أخلاقه وسيرته وحسن نيته وسريرته شاهد بفعوه وحلمه وطريقته فإن هذا الفصل قد جمع مكارم أخلاق لكل صفة من صفات الخير فيها نصيب وأشتمل على مناقب عجيبة وما اجتماعها في مثله بعجيب).
حقاً قد اشتملت هذه المقاطع التسعة من كلامه عليه السلام على مجموعة أمور مهمة جداً في حياة الفرد، وفي تدوير الزوايا لصالح المجتمع لُتحدث فيه قابلية العمل على التغيير الذي يسهم في رسم صورة واضحة المعالم عن خصائصه، فتعكس مقوماته وتكشف عن عناصر قوته.
وعندها يُرجى له الخير والتقدم ومنه الإبداع وفيه الرخاء، لتكون هذه الوصايا التسعة بمثابة لائحة قانونية تُعنى بتنظيم قواعد التعامل بين طبقات المجتمع الواحد على صعيد العلاقات الداخلية الخاصة والعامة، كما تُمهد لإقامة أفضل العلاقات الخارجية مع سائر المجتمعات الأخرى بما تقتضي أصول التعامل الإنساني بين الأمم، أو ما تُلزم به معاهدات السلام بين الشعوب، أو “بروتوكولات” واتفاقيات حُسن الجوار مع الدول المجاورة.
فتعبر عن احترام متبادل على أساس المشتركات، ليحل الاستقرار ويعم السلام عالمياً، ويستغنى عن الحروب كوسيلة دفاع، ويُستعاض عن وسائل تأمين الحماية العسكرية والنووية والاقتصادية بما يحقق الاستقرار والسلام عبر قنوات جديدة.
فنجدها تدعوا إلى
السيد محمد صادق الخرسان/مركز الاعلام الدولي
————————
المقالات والتقارير المنشورة بأسماء أصحابها تعبر عن وجهة نظرهم ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع
————————–
[1] المجازات النبوية –الشريف الرضي – ص241 – 242 برقم 195، ونحوه في الكافي – الشيخ الكليني – ج2 ص164 عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً، قال الشيف الرضي: (وهذا القول مجاز، لأن عيال الإنسان من يعوله ثقلهم، ويهمه أمرهم، والله سبحانه وتعالى لا تؤده الأثقال، ولا تهمه الأحوال، ولكنه سبحانه وتعالى لما كان متكفلاً بمصالح عباده، يدر عليهم حلب الأرزاق، ويلم لهم شعث الاحوال، ويعود عليهم بمرافق الأبدان، ومراشد الأديان، شبهوا من هذه الوجوه بالعيال الذين في ضمان العائل، وكفاية الكافل، على طريق الأتساع، وعلى معارف العادات)، ففي الحديث تشبيه بليغ، حيث شبه الخلق في أحتياجهم إلى الله بالعيال الذين يحتاجون إلى من ينفق عليهم ويتولى أمرهم، وحذف وجه الشبه والأداة.
[2] مسند أحمد – ج2- ص106.