قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ «38» مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ «39»﴾ [الدخان: 38 – 39]
صدق الله العلي العظيم
انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث في محاور ثلاثة:
الهدف من الوجود كما تصرح به الآية المباركة هو وصول الوجود إلى الحق، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ «38»﴾ إنما خلقناهما لهدف.
وذلك الهدف هو وصول الكون كله بسمائه وأرضه وبالمجتمع الذي يعيش فيه إلى الحق ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ «39»﴾
والحق هو عبارة عن العدل كما قال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].
فالهدف من الوجود كله هو إيصال هذا الوجود بجميع عوالمه وآفاقه إلى الحق الذي هو عبارة عن إقامة العدل في هذا الوجود.
ما هي العلاقة بين إحقاق الحق والوصول إلى الحق وإقامة الحضارة الكونية؟
العدل هو وضع الأشياء في مواضعها، عندما يقال فلان عادل أي يضع الأشياء في مواضعها، وفي مقابله الجور وهو البعثرة؛ وهو عدم وضع الأشياء في مواضعها.
بما أن الهدف من الوجود هو إيصال الوجود إلى الحق، والحق هو عبارة عن العدل أي وضع الأشياء في مواضعها، إذن الهدف من الوجود هو إقامة حضارة كونية.
لأن العدل وضع الأشياء في مواضعها، ووضع الأشياء في مواضعها يستدعي استثمار طاقات الكون وكنوزه، ولا يمكن وضع الأشياء في مواضعها إلا إذا اكتشف الإنسان أسرار الكون وطاقاته وكنوزه ووضعها في مواضعه.
ا وذلك ما يعبر عنه بالحضارة الكونية، فالهدف من الوجود هو الحضارة الكونية، وتحصل إقامتها أن يصل الإنسان إلى أسرار الوجود وكنوزه ومدخراته وطاقاته، من أجل أن يضعها في مواضعها.
عندنا دليلان: دليل عقلي، ودليل علمي.
هذه الملايين من المجرات وهذا الفضاء اللامتناهي الذي يضم ملايين المجرات ويضم ملايين النجوم والكواكب والمجموعات الشمسية ويضم طاقات لا حد لها ولا عدد لها، هل خلق عبثاً أم خلق لهدف؟
لا يمكن أن يقال بأن هذه الملايين من المجرات والطاقات خلقت عبثاً لأن العبث قبيح والقبيح لا يصدر من الحكيم.
فكيف بالحكيم تعالى، ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ «38»﴾.
وقال في آية أخرى: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 17].
إذن هناك هدف، والهدف من وجودها اكتشافها ومعرفة أسرارها واستثمار طاقاتها، والإنسان إلى الآن لم يمشِ متر من الهدف.
وإلى الآن ما تجاوز مجرته التي يعيش فيها، ما زال في أول خطوة من الطريق.
والهدف أن يفهم الإنسان هذا الوجود كله ويكتشف أسراره ويصل إلى ألغازه ويستثمر طاقاته وكنوزه حينئذ يتحقق الحق، وحينئذ يتحقق العدل الذي جعله الله هدفاً لهذا الوجود.
ذكرنا في محاضرة سابقة أن فيزياء الكم ترى الكون كله كتلة واحدة متصلة، بعكس الفيزياء التقليدية التي كنا نرى فيها الأشياء منفصلة، هذا الكون فيه جماد، وحيوان، وإنسان، وفيه مجموعات شمسية وكواكب،
كل شيء منفصل عن الآخر، له طول وعرض وعمق وزمن، فنرى الكون مفككاً وأشياء منفصلة.
بينما اليوم فيزياء الكم تقول أن هذا مجرد وهم وشعور، وإنما الكون كله كتلة واحدة متصلة بعضها ببعض، الكون كله مثل الأسرة الواحدة يؤثر بعضه في البعض الآخر، كل جزء من هذا الكون مؤثر ومتأثر.
الإنسان مؤثر يصعد الفضاء ويعمر ويهدم، وهو أيضاً متأثر ملايين النجوم التي تبعد عنا بملايين السنين تؤثر في حياتنا، كل الكون مؤثر ومتأثر لا ينفصل بعضه عن البعض الآخر.
ولو انتزعت شيء منه لاختل نظام الكون، كل الكون مرتبط بعضه ببعض لا تستطيع أن تقول هذا أول وهذا آخر، كل أجزائه متصلة مؤثرة ومتأثرة، أي بين أجزاء الكون تبادل في التأثير والتأثر.
بناء على هذا كيف يمشي الإنسان مع نظام الكون إذا كان نظام الكون كله متصل يؤثر بعضه في البعض الآخر، وكيف سيتفاعل معه؟
لا يمكن للإنسان أن يتفاعل مع نظام الكون إلا إذا اكتشف أسراره وكنوزه واكتشف طاقاته، حينئذ يستطيع التفاعل مع نظام الكون.
ولهذا الآيات القرآنية تنص على هذا الدليل العلمي، لاحظوا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20] ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13].
وهذا معناه أن الكون كتلة متصلة يؤثر بعضه في البعض الآخر سواء أدركنا أم لم ندرك، الكون كتلة متصلة تتبادل التأثير والتأثر.
وهناك آية أخرى تدل على أن الكون له لغة عندما يقول تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحديد: 1] ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].
الكون كله يسبح، حتى الإلكترون الذي يدور حول النواة يسبح، التسبيح لغة واللغة فرع الحياة إذن الكون كله يعيش حياة، فمتى يكتشف الإنسان لغة الكون ولغة الحياة في الكون إذا لم يكتشف أسرار الكون وطاقاته!
وسيأتي اليوم الذي يسيطر الإنسان على الكون كله ويسيطر على طاقات الفضاء ويستثمرها ويسخرها.
اقرأ قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن: 33].
أي أن الإنسان يستطيع أن ينفذ من الأقطار ويعبرها ويسيطر عليها، يستطيع أن ينفذ من أقطار السماوات كلها، لكنه يحتاج إلى السلطان والعلم ليتمكن من هذه القدرة.
إذن الهدف من وجود الكون أن يسيطر الإنسان على الكون، وأن يسيطر الإنسان على الفضاء اللامتناهي، وأن يستثمر طاقاته.
فإذا استثمر طاقاته تحقق الهدف من الكون وهو الحضارة الكونية التي عبَّر عنها الله بالحق ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان: 39].
إذن هناك هدف من وجود الكون ومن وجود الإنسان في الكون؛ أن يصل الإنسان إلى أسرار الكون.
حتى القرآن ما زالت أسراره خفية، مثلاً عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [النمل: 88].
هنا عرفنا هذا السر أن الأرض متحركة، وعندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47] أي أن السماء في حالة توسع، كما في نظرية هابل التي تقول أن الفضاء في حالة تمدد واتساع.
ولكن في بعض الآيات إلى الآن لم نكتشف معناها ويحار العلماء في معناها ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: 41].
إلى الآن الآية تحمل لغزا علميا غير واضح.
إذن الكون كتاب يعج بالأسرار ويعج بالألغاز والكنوز والطاقات، ووظيفة الإنسان الوصول إليها واكتشافها وهذا هو الهدف من وجود الكون ومن وجود الإنسان، إقامة الحضارة الكونية باكتشاف الأسرار والطاقات.
اليوم الموعود لإقامة الحضارة الكونية التي يسيطر فيها الإنسان على الفضاء هو يوم الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف.
كثير من الناس يظن أن دولة المهدي دولة بدوية بدائية لأن الروايات قالت بأنه يخرج بالسيف.
ولكن السيف كناية ورمز؛ أي يمتلك السلاح الذي يقتدر به للدفاع عن المظلومين والمضطهدينز
الإنسان الذي قطع هذا المشوار العظيم وبلغ ما بلغ لا يعود إلى الحضارة البدائية ويخرج الإمام المهدي في هذه الحضارة لأن العلم لا يرجع إلى الوراء.
إذن ليست الدولة بدائية تعتمد على طرق بدائية في إدارة الصناعة والزراعة وعالم الطاقات، الإمام يقيم حضارة كونية تنطلق من الأرض.
لاحظ الآيات والروايات التي تشير إلى هذه النقطة عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: 17].
متى ماتت الأرض ومتى حيت؟ يرد عن الإمام الصادق قال: ”يحييها بعدل القائم بعد موتها بجور الجائرين“ يخرج طاقاتها وكنوزها ويحولها إلى حضارة عالمية.
واقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].
وأما الروايات فهي واضحة على أن يوم المهدي يوم حضارة، عن أبان بن تغلب عن الإمام الصادق قال: ”العلم سبعة وعشرون جزءً وكل ما جاء به الأنبياء جزآن وما عرف الناس غير جزئين فإذا خرج قائمنا أخرج خمسة وعشرين جزء من العلم وبثها في الناس“.
وعن أبي الربيع الشامي عن الإمام الصادق يقول:
”لا يكون بين القائم والناس بريد يكلمهم فيسمعونه وينظرونه وهو في مكانه“ اليوم أكبر رئيس في العالم يتحدث في مكانه وكل العالم يشاهده ويسمع صوته، وهذا الكلام في زمان الإمام الصادق غريب.
وما رواه الحاكم في مستدركه عن النبي محمد قال:
أبشركم بالمهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وتأمن في عهده حتى البهائم والسباع، ويرضى عنه ساكن السماء كما يرضى عنه ساكن الأرض، وتلقي الأرض إليه بأفلاذ كبدها. قيل: وما أفلاذ كبدها؟ قيل: مثل الأسطوان من الذهب والفضة.
وعن الإمام الصادق قال: ”إن ذا القرنين خُيِّر بين السحابين فاختار الذلول وذخر لصاحبكم الصعب. قلت: وما الصعب؟ قال: أما إنه يركب السحاب ويرقى في الأسباب أسباب السماوات والأرض“.
بمعنى أنه يتحقق في عهده سيطرة على الفضاء وعلى مقاليده بحيث يصل الإنسان إلى أقصى درجة من الفضاء ويركب السحاب ويرقى في أسباب السماوات والأرض.
ولذلك الذين يعيشون في زمن الإمام ليسوا جهلاء وليسوا متخلفين كلهم يمتلكون الوعي والعلم والمعرفة.
الإمام يخاطب أبا خالد الكابلي: يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته، المنتظرين لظهوره هم أفضل أهل كل زمان، لأن الله تعالى وهبهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت الغيبة عندهم بمنزلة الشهادة.
إذن الإمام المنتظر قائد يمتلك علماً وقدرة، ويمتلك معرفة يستطيع بها أن يحول الأرض إلى حضارة عالمية.
قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5].
الوارث كالخاتم أي كما أن قوله تعالى في شأن النبي : ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40].
لأن رسالته اجتمعت فيها كل الكمالات الموجودة في الرسالات السابقة، ولأن النبي اجتمعت فيه كل الكمالات التي كانت موجودة في الأنبياء والرسل، فلأنه جمع الكمالات كلها صار هو الخاتم والأخير كذلك المهدي هو الوارث.
ومعنى أنه الوارث أنه تجتمع فيه كل الكمالات للأنبياء والمرسلين والأوصياء فإذا اجتمعت فيه الكمالات كلها أصبح هو الوارث لكل شيء.
الإمام المنتظر قائد الإصلاح الذي قام من أجله الحسين بن علي «ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي» يقوم من أجل الإصلاح.
والإصلاح ستتحقق غايته وغاية أهدافه في زمن الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، يقود مسيرة الإصلاح ومسيرة الأنبياء والمرسلين ويقوم بأخذ ثارات الحسين.
الإمام له خروجان: خروج من مكة وخروج من كربلاء، الخروج الأول من مكة وهو أول بزوغ لنوره فإذا خرج اجتمع حوله أنصاره الخلص الكمل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
ثم يأتي جيش السفياني من الشام لمواجهته فيختفي الإمام عجل الله فرجه الشريف ويخرج مرة أخرى في نفس السنة في كربلاء المقدسة عند قبر جده الحسين بن علي، ويرفع ذلك الشعار المعروف «يا لثارات الحسين».
فهو الذي يأخذ بثأر جده الحسين وهو الذي يحقق أهدافه، وهو المعزى في مثل هذا اليوم، هو صاحب المصيبة وصاحب العزاء.