حدوث الثغرات والانحرافات أمر طبيعي في أي مجتمع بشري، قد ينشأ الخلل من داخل المجتمع بانتشار أفكار سيئة، أو ظهور سلوك منحرف، وقد يتسلل الخلل إلى المجتمع بفعل تأثيرٍ أو إرادةٍ من خارجه.
لكنّ المجتمعات تتفاوت في مستوى الاهتمام برصد واقعها، واستكشاف نقاط الضعف والخلل فيه، والاعتراف بها، والمبادرة إلى معالجتها.
هناك مجتمعات تعيش حال الاسترسال، ولا تبدي اهتمامًا بدراسة واقعها، وتسليط الضوء على مناطق الضعف والخطأ في مسيرتها، فتتسع فيها الثغرات، وتتراكم الأخطاء، وتتجذر الانحرافات.
وحينما تكون في المجتمع قيادة مخلصة، ونخبة واعية، فإن عليها أن تتحمل مسؤولية تنبيه المجتمع لنقاط ضعفه، وتوجيهه لمحاصرتها ومعالجتها.
وهي مهمة ليست سهلة، بل تكتنفها صعوبات بالغة.
بعض المجتمعات تسودها حالة نرجسية، لذلك ترفض النقد والتقويم، وتدافع عن كل شيء في ثقافتها وممارستها، وتختلق مختلف التبريرات لتزكية وتقديس ما هي عليه.
يقول تعالى منددًا بمثل هذه الحالة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ . [سورة النساء، الآية: 49]
إنهم يزكون أنفسهم، أي يزعمون خلوهم ونزاهتهم عن الشوائب والنواقص. لكن ذلك لا يحصل بالادّعاء والتبجح، بل بالتزام القيم الإلهية العادلة.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى?﴾ . [سورة النجم، الآية: 32]
وبعض الأخطاء والانحرافات قد تتجذر في المجتمع لمرور زمن عليها، فيألفها الناس، ويرفضون نقدها، ويمتنعون عن تغييرها، خاصة ما يكون منها ذا صبغة دينية.
وقد تتشكل مراكز قوى في المجتمع، تستفيد من وجود تلك الأخطاء، فتستميت في الدفاع عنها، وتواجه أي نقد أو محاولة لتغييرها.
لكن القيادة الواعية المخلصة، تتجاوز هذه الصعوبات والعقبات، لتقوم بواجبها في تصحيح الأخطاء والانحرافات في ساحة المجتمع، ولو كلفها ذلك بعض الأعباء، أو سبب لها ضررًا وإيذاء.
وهذا ما نجده في سيرة الإمام جعفر الصادق «83- 148 هـ»، الذي تحمّل أعباء الإمامة بعد أبيه الإمام محمد الباقر ، وقاد مدرسة أهل البيت لثلاثة عقود ونصف من الزمن، وهو أطول الأئمة عمرًا، فعمره الشريف 65 عامًا.
وقد واصل الدور الريادي الكبير الذي قام به أبوه الإمام الباقر ، حيث استثمر الظروف السياسية والاجتماعية المناسبة، لتأسيس مدرسة علمية دينية استوعبت الآلاف من الراغبين في العلم والمعرفة من أبناء الأمة، ونشر من خلالها معارف أهل البيت وعلومهم، وتخرج منها العلماء في مختلف التخصصات العلمية.
وفي عهد الإمام الصادق ، ومع انتشار تيار الولاء والتشيّع لأهل البيت في ساحة الأمة، وإتاحة الفرصة للتحدث عنهم، فقد برزت بعض الظواهر السلبية، والتحديات الخطيرة، داخل هذا التيار الموالي لأهل البيت .
فتصدى لها الإمام الصادق ، وأعطاها الأولوية في توجيهاته وأحاديثه، لتشخيص تلك الثغرات ومواقع الخلل، ونقدها وتقويمها، من أجل محاصرتها وتنقية أجواء التشيّع منها.
ويجد الباحث في سيرة الإمام الصادق ، وفي الروايات التي أسندت إليه، ورُويت عنه، عشرات النصوص التي تتضمن النقد والتقويم، لظواهر ثقافية وسلوكية كان يعاني منها الوسط الاجتماعي المحيط بالإمام.
ويمكن تصنيف تلك المعالجات النقدية التقويمية، التي أبداها الإمام داخل محيط دائرة أتباعه، والموالين له، ضمن العناوين التالية:
1/ تضخّم الولاء العاطفي على حساب الالتزام السلوكي.
2/ الغلو المرفوض.
3/ الدس والاختلاق على أهل البيت .
4/ احتراف الخصومة والجدل المذهبي.
5/ الانغلاق والعزلة عن جمهور الأمة.
6/ استفزاز الآخر.
7// ضعف التكافل الاجتماعي.
8/ عدم استيعاب الاختلاف الداخلي.
فشلت جهود الأمويين في التعتيم على فضائل أهل البيت ، حيث ظهرت بعض مناقبهم وخصائصهم، وسعة علمهم، والأحاديث النبوية في حقهم، على نطاق واسع من جمهور الأمة، ورأى الناس بالمشاهدة والمعايشة لهم طهارة نفوسهم، وعظيم أخلاقهم، فمالت القلوب إلى محبتهم، وامتلأت النفوس إعجابًا وانبهارًا بشخصياتهم الفريدة.
وهذا ما أشار إليه العالم اللغوي المعروف الخليل بن أحمد الفراهيدي «توفي 173 هـ» في حديثه عن أمير المؤمنين علي ، حيث نقل عنه قوله: «ما ذا أقول في رجل أخفت أولياؤه فضائله خوفا، وأخفت أعداؤه فضائله حسدا، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين؟».
كما أن ما وقع على أهل البيت ، من ظلم وجور المناوئين لهم، خاصة فاجعة كربلاء، أوجدت تعاطفًا وتفاعلًا ايجابيًا كبيرًا تجاه أهل البيت في أوساط أبناء الأمة، وكانت عنصر جذب للناس نحوهم، حتى أن العباسيين في صراعهم مع الأمويين رفعوا شعار «إلى الرضا من آل محمد». [البلاذري: أنساب الأشراف، ج 1، ص 479]
لكن أئمة أهل البيت ما كانوا يبحثون عن عاشقين ومحبين ومعجبين بهم، على مستوى العواطف والأحاسيس فقط، بل كانوا يريدون ترجمة ذلك سلوكًا واتباعًا لنهجهم، بالالتزام بقيم الدين ومبادئه على المستوى السلوكي والعملي.
وكان هناك من يروّج في أوساط الموالين لأهل البيت ، بأن محبتهم والتعاطف معهم، تكفي للنجاة والفوز عند الله، وبها يتم واجب المودة التي أمر الله بها، بقوله تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?﴾ . [سورة الشورى، الآية: 23]
وقد جاء في رسالة الإمام الصادق إلى المفضل بن عمر: «أَنَّ قَوْماً يَزْعُمُونَ أَنَّ اَلدِّينَ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ اَلرِّجَالِ [أي الأئمة]، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا عَرَفْتَهُمْ فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ». [بحار الأنوار، ج 24، ص 286]
بل روج بعض الغلاة أنه لا حاجة للصلاة والصوم مع حب الأئمة، وهو كفارة عن كل الذنوب والمعاصي.
وردًا على هذا الاتجاه، وفضًا لهذه الفكرة، نجد كثافة الأحاديث والتوجيهات الصادرة عن الإمام الصادق في محاصرة هذه الظاهرة، وتوعية المجتمع الشيعي بخطئها وانحرافها، والتأكيد على الالتزام السلوكي بقيم الدين وأحكامه، وأن المحبة والولاء العاطفي لأهل البيت لا يغني أبدًا عن الالتزام العملي بالدين والأخلاق الفاضلة. بل يجب أن يكون دافعًا لذلك.
أما النصوص التي يظهر منها تأثير الولاء والمحبة في نيل رضا الله تعالى وتجاوز عقوبات الذنوب، مثل الحديث المروي عن رسول الله ﷺ: «حُبُّ عَلِيٍّ حَسَنَةٌ لاَ تُضِرُّ مَعَهَا سَيِّئَةٌ» [ينابيع المودة لذوي القربى، ج 1، ص 375]، فالمقصود منها السيئة التي تحصل عن جهل وغفلة، أو ضعف إرادة في لحظة ما، وليس السيئة التي تصدر من الإنسان عن قصد واستهانة بأمر الله تعالى، وتكون سلوكًا ومسارًا في حياته.
وإذا كان الله تعالى قد أخبرنا أن محبته تقتضي اتباع شرعه، وإلا فلا قيمة لها، فكيف بمحبة النبي والإمام؟
يقول تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ? وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ . [سورة آل عمران: الآية: 31]
ونستحضر هنا نماذج مما رود عن الإمام الصادق في هذا السياق.
جاء عنه : «إِنَّمَا شِيعَةُ جَعْفَرٍ مَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ وَاِشْتَدَّ جِهَادُهُ وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ وَرَجَا ثَوَابَهُ وَخَافَ عِقَابَهُ فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ». [صفات الشيعة، ص 11، ح 21]
وعنه : «اِمْتَحِنُوا شِيعَتَنَا عِنْدَ مَوَاقِيتِ اَلصَّلاَةِ كَيْفَ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا». [بحار الأنوار، ج 80، ص 23]
وعنه : «لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ وَخَالَفَنَا فِي أَعْمَالِنَا وَآثَارِنَا». [بحار الأنوار، ج 65، ص 164]
وعنه : «لَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ يَكُونُ فِي مِصْرٍ يَكُونُ فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ وَيَكُونُ فِي اَلْمِصْرِ أَوْرَعُ مِنْهُ». [بحار الأنوار، ج 65، ص 164]
وعَنْ جَابِرٍ الجعفي أن الإمام محمد الباقر قَالَ له: «يَا جَابِرُ أَيَكْتَفِي مَنِ انْتَحَلَ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَوَ اللَّهِ مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَأَطَاعَهُ… يَا جَابِرُ لَا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وَ أَتَوَلَّاهُ ثُمَّ لَا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالًا فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ – فَرَسُولُ اللَّهِ ص خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ ع ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَهُ وَ لَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِهِ مَا نَفَعَهُ حُبُّهُ إِيَّاهُ شَيْئاً فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ… يَا جَابِرُ وَاللَّهِ مَا يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَ مَا مَعَنَا بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ وَ لَا عَلَى اللَّهِ لِأَحَدٍ مِنْ حُجَّةٍ مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ وَ مَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ وَ مَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ وَ الْوَرَعِ». [الكافي، ج 2، ص 74، ح 3]
ما أحوج مجتمعاتنا الشيعية في هذا الزمن، إلى استحضار مثل هذه التوجيهات للإمام جعفر الصادق ، لمواجهة تأثير التيارات الشعبوية التي تضخّم الولاء العاطفي لأهل البيت على حساب الالتزام السلوكي، وهو ما تصدى الإمام الصادق لمواجهته والتحذير منه.
الشيخ حسن الصفار/موقع الجهات الإخبارية