السّنةُ الثّانيَةِ
{قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. ١/ من حقّ المرء، عندما يكون خارج السلطة وفي صفوف المعارضة، ان يرفع ما يشتهي من شعارات، ويقدّم للراي العام ما يحلو له من وعود وتعهدات، فكلّ ذلك كلامٌ لا يمكن لاحدٍ ان يتثبّت او يتأكّد صدقه من كذبه، وصحّته من سُقمه، وما اذا كان صاحبه قادرًا على تنفيذ شعاراته وتحقيق وعوده ام انها فوق طاقته لا يقدر عليها! وهي مجرد شعارات جوفاء فارغة يرفعها عالياً لخداعِ النّاس وركوب الموج!. ٢/ ولذلك قدّم لنا القرآن الكريم في هذه الاية المباركة جوهر فلسفة الاستخلاف، والذي لخّصته في العبارة {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فالعبرة، اذن، في العمل وما سيُنجزه الخلَف، وليس فيما كان يقوله وهو خارج السلطة، فذلك كلامٌ لا يُعتدُّ به، بانتظار ان نراه واقعاً ملموساً يمشي على الارض بعد الاستخلاف. انّ فترة ما قبل الاستخلاف هي مرحلة الكلام والشعار والادعاء والتّنظير والنظريّة، اما مرحلة ما بعد الاستخلاف، فهي مرحلة العمل والفعل والانجاز، ولهذا السّبب يمكن اعتبارها مرحلة الاختبار والبلاء والامتحان، وهي المرحلة التي سيرى فيها الله تعالى، وكذا عباده، فعل الخلف بعيداً عن القول، وقديماً قيل (عند الامتحان يُكرم المرءُ او يُهان)!. ٣/ تأسيساً على هتين الحقيقيين، يمكن القول ان معيار معرفة صدق كلام المرء من كذِبه، هو الإنجاز والانجاز فقط، وما عداه ليس اكثر من ثرثرة لسان يمكن لأيّ انسان في هذا الكون ان يدلي بها، حتّى المجانين يفعلون الشيء نفسه دائماً. انّ الكثير من حركات المعارضة ظلّت تشنّ حملاتها الإعلامية ضد النظام الحاكم، في محاولة منها لاقناع الراي العام بانها ستختلف عنه اذا ما سقط ووصلت هي الى السلطة، لينتبه الراي العام، بعد حين، الى حقيقة انّها لا تختلف عنه في شيء وربّما هي اسوأ منه!. ولذلك ينبغي علينا ان نفحص صدق مثل هذه الحركات المعارضة من كذبها، من خلال النّظر الى المُنجز فقط وان لا نقبل منها ايّ تبرير، فالمُنجز السليم فقط هو دليل صدق نواياها ومنطلقاتها وشعاراتها وأهدافها وفلسفة معارضتها للنظام البائد، والعكس هو الصحيح، فاذا كان منجزها لا يختلف عن منجز النظام البائد او اسوأ، فهذا دليلٌ قاطعٌ على ان كلّ ما كانت تقوله ايام المعارضة لم يكن سوى اكاذيب ودجل تستّرت به للوصول الى السلطة فقط!. المنجز فقط، اذن، هو المائز الوحيد بين زمنين، زمن المعارضة وزمن السلطة، فاذا كان سليماً فهو دليل صدق كل شيء واذا كان عكس ذلك فهو دليل كذب كل شيء. وبمقارنة بسيطة بين علي بن ابي طالب خارج السلطة وبين علي بن ابي طالب في السلطة، فسنكتشف انه كان اصدق مثالٍ على النوايا والاهداف والمنطلقات والشعارات، فما كان يعترض عليه الامام ويأخذه على من سبقه من الخلفاء، لم يتنازل عنه او يتورّط فيه او يتجاهله ابداً، عندما تسنّم سدّة الخلافة، ولتوضيح الفكرة دعونا ناخذ ذلك في ثلاثة مستويات؛ الاول؛ هو معارضته الشعواء والمستمرّة للفساد المالي والاداري الذي ابتُلي به المجتمع منذ وفاة رسول الله (ص) وعلى مدى ربع قرن كامل من الزمن. ولانّ معارضته لم تكن نظريّة فقط او لذاتها او كأداة سياسية للتسقيط والفضائح، وانّما كانت معارضة مبدئيّة ثابتة، ولذلك عمد فور تسنّمه سدة الخلافة الى تصحيح هذا الخطأ الذي كان يرقى في منهجية الامام الى مستوى الجريمة، بل والخيانة، فقال عليه السلام فيما ردّهُ على المسلمين من قطائع عثمان {وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الاِْمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ; فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!}. وعندما حاول اخوه عقيل استعطافه لاستدراجه لبعض الفساد المالي، رفض الامام عليه السلام قائلاً؛ وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أمْلَقَ حَتَّى اسْتماحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الاَْلْوَانِ، مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمَعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ، مُفَارِقاً طَرِيقِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَف مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، يَا عَقِيلُ ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَة أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَار سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَئِنُّ مِنَ الاَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظىً؟!. الثّاني؛ هو معارضتهِ الشّعواء للتمييز الذي مارسه الحكّام، بعد ما سعى رسول الله (ص) لمحاربته في المجتمع وتكريس العدل كبديلٍ انسانيٍّ عنه، فبادر عليه السلام الى اعادة هيكلة العطاء بالتساوي على اعتبار ان الحقّ في بيت المال لا ينبغي ان يكون فيه ايّ تمييز بين المواطنين، سواء على أساس السابقة في الاسلام والجهاد وما أشبه، او ما يسمّونه اليوم في العراق بالخدمة الجهادية التي تُعتبر واحدة من أقبح البدع السياسيّة التي سنّها (المعارضون) عند وصولهم الى السّلطة، او على أساس الانتماء القبلي والمناطقي وما الى ذلك، ولذلك فعندما اعترض بعض المتضرّرين من الغاء سياسة التمييز في العطاء، قال لهم الامام عليه السلام؛ {الا وأيّما رجلٍ من المهاجرين والأنصار من اصحاب رسول الله (ص) يرى انّ الفضلَ لَهُ على سواه لصُحبتهِ فانّ الفضلَ النيّر غداً عِنْدَ الله، وثوابُهُ وأجرُه على الله}. الثّالث؛ هو معارضتهِ للحاكم عندما يميّز نَفْسَهُ عن الرعيّة، في العطاء والامتيازات والفرص وغير ذلك، فضلاً عن تمييز محازبيه وأسرته وعشيرته ومواليه عنهم. وعندما تسنّم الامام عليه السلام سدّة الخلافة كان وفيّاً جداً لهذا الموقف، قائلاً ؛ وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إِلَى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الاَْطْعِمَةِ ـ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْـيَمَامَةِ مَنْ لاَطَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ ـ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِالْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ! وغير ذلك الكثير، والذي يشير كّله الى صدق معارضة الامام للسّلطة الظالمة، فهي لم تكن مجرّد شعارات لتحريض الراي العام ضد السلطة القائمة، كما لم تكن مجرّد آمال عريضة ومثاليّات الهدف منها استدراج المغفّلين لتحشيدهم لصالح مشروع إسقاط النظام القائم والاستيلاء على السلطة، او لاستدراجهم من اجل الحصول على اصواتهم في الانتخابات! ابداً. انها كانت منهجاً عند الامام ولذلك لم يتغيّر شيءٌ عنده في الزمنين، زمن المعارضة وزمن السلطة. انها تجربة صحيحة ودقيقة اذا اردنا ان نقيسها على كلّ مَنْ يصل الى السّلطة، وأردنا ان نعرف صدقهُ من كذِبهِ، ولنبدأ بالعراق، وتحديداً بمن يدّعي انتماءه الى مدرسة علي بن ابي طالب (ع) لنعرف [مَنْ بكى مِمَّنْ تباكى]!.